روابط الوصول

في السّنوات العشر الماضية، لاحظنا العديد من ملصقات الأفلام الفنّيّة العربيّة التي تُظهر شخصيّةً تدير ظهرها للكاميرا أو تسير مغادرة مبتعدةً عنها أو ربّما تنظر، في بعض الحالات، في غير اتّجاهها. في حالات أخرى نادرة، حيث تواجه الشّخصيّة الكاميرا، نجد مسافة تفصل بين الإثنين، فالشّخصيّة إمّا تقف بعيدًا أو خلف ستارة ما مثلًا. عندما تُعرض هذه الأفلام في أوروبّا، غالبًا ما يتجنّب المبرمجون استخدام ملصقاتها الأساسيّة ويختارون بديلًا عنها صورة من الفيلم تَظهرُ فيها الشّخصيّة وهي تَنظر باتّجاه المشاهد/الكاميرا، تمامًا كما جرت عليه العادة في الحملات التّرويجيّة للأفلام الغربيّة. كموزّعة للعديد من هذه الأفلام، لطالما وجدت الأمر مزعجًا. ألا يدرك المبرمجون أنّ الشّخص الظاهر في الملصق يحتاج أن يبقى محميًّا؟ من ناحية أخرى وفي الوقت نفسه، ألم يصنع المخرج فيلمه ليتواصل عبره مع العالم؟ إذ نستعرض ملصقات أفلام عربيّة صُنعت في حقبات زمنيّة ماضية، نجد أنّ ملصقات الأفلام التي تتناول موضوع الوحدة لم تحاول أن تخبّئ شخصيّاتها خلف أيّ ستار من أيّ نوع بل أظهرتها بشكل واضح وصريح. ما الدّور الذي تلعبه الوحدة إذًا في السينما العربيّة وكيف تغيّر هذا الدّور عبر الزّمن؟

الوحدة، الألم النّاتج عن عزلة، كلمةٌ دائمًا ما ارتبطت بالمجتمع ككلّ. في اللغة العربيّة وفيها وحدها دون غيرها، نجد أنّ كلمة الوحدة يمكن أن تُستخدم للإفادة بمعنى آخر، أي الاتّحاد. في الإنكليزيّة أو الفرنسيّة أو الألمانيّة مثلًا، تتناقض كلمة الوحدة - تلك النّاتجة عن عزلة (loneliness) - تناقضًا تامًّا مع نسختها التي تفيد معنى الاتّحاد (unity). لطالما شكّلت هذه العزلة المؤلمة جزءًا عضويًّا من السينما العربيّة منذ نشأتها، إذ نجدها مع بدايات هذه السينما في النصّين الذين وضعتهما كاتبة السيناريو التّونسيّة هايدي سمامة شيكلي تمزالي للفيلمين الرّوائيّين، القصير “زُهرة” (إخراج ألبير سمامة شيكلي، 1922) والطّويل “عين الغزال” (ألبير سمامة شيكلي، 1924). الفيلمان يتناولان موضوع الوحدة وهما من أوّل الأفلام التي صنعها بالكامل تقنيّون وممثلون عرب وأفارقة. ينتقد فيلم “عين الغزال” بوضوح الزّيجات المدبّرة وهو انتقاد كان شائعًا وسط نُخَب الشّعوب الخاضعة للاستعمار آنذاك. نجد موضوع الوحدة أيضًا في الفيلم المصريّ “الوردة البيضاء (محمّد كريم، 1933) وهو أوّل فيلم مصريّ ناطق، حيث يعاني الحبيبان الممنوعان عن الزواج، من الوحدة التي تفرضها عليهما القواعد الطّبقيّة وقوانين الأعراف والتّقاليد. يتحدّى الفيلم صراحة التّقاليد السائدة ويدعو إلى كسرها. صحيح أنّ فيلم “الوردة البيضاء” يشتهر اليوم بموسيقاه التصويريّة، غير أنّ “نزعته القوميّة” هي التي جلبت له الثّناء والتّقدير عند إطلاقه في الصّالات المصريّة عام 1933، إذ كال له يومها المديح سياسيّون مصريّون كبار وشكروا المخرج محمّد كريم على مشروعه “القوميّ الشّاخص نحو المستقبل” وعلى “فيلمه الوطنيّ العظيم”. حتّى مرحلة متقدّمة من تسعينيّات القرن الماضي، قاربت السّينما العربيّة إذًا موضوع الوحدة في سياقه الاجتماعيّ العامّ. هذه مقاربة تتناقض تناقضًا جوهريًّا مع المقاربات المتّبّعة في السينما الغربيّة، ففي هذه السينما، خاصّة في أفلام “الويسترن” وأفلام “المغامرات”، أي في تلك الأفلام التي تقع في خانة النّوع الرّائج للفيلم “الكولونياليّ”، نجد البطل – أو البطلة في بعض الحالات مؤخّرًا – يمضي في سبيل تنفيذ مهمّته ليحقّقها بمفرده تلقائيًّا. الرّواية هنا تُقدّم البطل كفرد. لطالما قدّمت الأفلام الوثائقيّة الإمبريالية الشّعوبَ الخاضعةَ للاستعمار كمجموعات مجهولة ولطالما استخدمت في وصف الطّبيعة المفترَضة لهذه المجموعات صوتًا ذكوريًّا يوحي بسعة علم صاحبه وعمق معرفته. في ردّ فعلٍ على هذا النّوع من الأفلام الغربيّة وفي فعلٍ رافضٍ للصّورة النّمطيّة التي قدّمتها هذه الأفلام عن العرب - وهي أفلام عُرِضت أيضًا في المستعمرات - اعتمدت السّينما العربيّة بُعَيد الاستقلال نوعًا سينمائيًّا واقعيًّا. وظّفت الدّول القوميّة الناشئة السينما في خلق هويّة وطنيّة جامعة وفي تدعيم أواصر الاتّحاد في البلاد وفي تقديم الأمّة العربيّة على حقيقتها المزعومة (أي كما رأتها الدّولة القوميّة). أحد أشهر هذه الأفلام هو بلا شكّ فيلم “معركة الجزائر” (جيلو بونتيكورفو، 1966) الذي أمرت الحكومة الجزائريّة بإنتاجه. قَدّم هذا الفيلم الرّوائيّ ذات الأسلوب الوثائقيّ، بطلًا ثانيًا إلى جانب قائد الثورة، علي لابوانت؛ الشّعب الجزائري بأكمله. هذه الصّورة التي حاولت السينما العربيّة تقديمها للخارج بعيد الاستقلال، أمّا في الدّاخل وفي واقع الأمر، فإنّ هذا النّوع من الأفلام فَقَدَ في نهاية المطاف معظم مصداقيّته بعد هزيمة العام 1967. عندها بدأ يظهر جيلٌ جديد من السينمائيّين الذين سلّطوا عدساتهم على جراح مجتمعاتهم وقدّموا للشّاشة العربيّة صورةً جديدة عن “الإنسان الفرد”.

صوّر محمّد ملص إثنين من أوائل أفلامه القصيرة في مسقط رأسه بلدة القنيطرة في هضبة الجولان السّوريّة التي كان قد غادرها طفلًا. احتلّ الجيش الإسرائيليّ البلدة عام 1967 واستردّها الجيش السّوريّ بعد تحريرها في حرب العام 1973. قبل انسحابه دمّر الجيش الإسرائيليّ البلدة بالكامل محوّلًا إيّاها إلى أنقاض لا تصلح لسَكَن. في قنيطرة 74 (1974، 20 دقيقة)، الفيلم الذي بالكاد يحتوي على أيّ حوار، تنسحب شخصيّة الفيلم الرّوائيّة من وسط مجموعة من سكّان البلدة السّابقين الذين يزورونها لأوّل مرّة بعد تحريرها. تأخذ شخصيّة الفيلم المشاهد إلى أماكن أثّرت عميقًا في تشكيل حياتها. في حين أنّ الجوّ في فيلم قنيطرة 74 خياليّ غامض، فإنّ الجوّ في فيلم الذاكرة (1975، 13 دقيقة) يأتي شديد الواقعيّة رغم سرياليّته. يتناول الفيلم قصّة وداد ناصيف التي تبلغ السبعين من عمرها وهي واحدة من بضع عشرات من السّكان الذين لم يغادروا البلدة بعد احتلالها. قرّرت وداد البقاء في البلدة رغم تدميرها بالكامل. بينما كانت الحكومة السّوريّة قد أعلنت المدينة “ميتة” وجعلت منها معلمًا تذكاريًّا وطنيًّا، جاءت أفلام ملص لتنفث فيها الرّوح من خلال نقل معنى هذا الموت عند سكّانها.

هذا في سوريا. في فلسطين، يُعتبر فيلم الذاكرة الخصبة (1980، 90 دقيقة) للمخرج ميشيل خْليفي أوّل فيلم يَخرج إلى المشاهد من داخل فلسطين المحتلّة. يصوّر الفيلم بحميميّةٍ حسّاسة امرأتين فلسطينيّتين: روميه فرح حاطوم من طبقة العمّال من النّاصرة وسحر خليفة الكاتبة التي تصغرها سنًّا وهي امرأة مطلّقة من رام الله. لا يشبه فيلم الذاكرة الخصبة تلك الأفلام التي أنتجتها منظّمة التّحرير واستخدمتها “كإعلام مضاد” بل يقف على نقيضها، تمامًا كما يقف في الآن عينه على نقيض التّوصيف الغربيّ لفلسطين. بحَثَ خْليفي في ماهيّة وتركيبة الفلسطينيّين وحفر عميقًا في تعقيد وتنوّع وتناقضات مجتمعه. “هكذا قرّرْتُ أن أصنع فيلمًا للنساء الفلسطينيّات وليس عنهنّ، فيلمًا لفلسطين عبر نسائها”. من جهته، يقارب نوري بوزيد في فيلمه ريح السّدّ (1986، 109 دقائق)، موضوعًا محرّمًا اجتماعيًّا فيربط بين الصّدمات النّفسيّة التي تصيب الفرد وتلك التي تصيب الجماعة ككلّ، بين الفرديّة منها وتلك الجمعيّة. في تعامل هاشمي مع زواجه المدبّر، تلاحقه ذكريات حادثة الاغتصاب التي تعرّض لها خلال طفولته. مشكّكًا برجوليّته يعود ليزور ثلاث شخصيّات أبويّة، الأب البيولوجيّ، ثمّ مدرّبه على النّجارة (وهو الرجل الذي اعتدى عليه جنسيًّا يوم كان طفلًا) ثمّ صاحب ورشة النّجارة السيّد ليفي. ربطت هاشمي بحفيد السيّد ليفي صداقة طفولة قويّة، لكنّ الصّديق كمعظم اليهود التّونسيّين غادر البلاد بعد استقلالها. يقول بوزيد: “عند الاعتراف بالهزيمة، تبادر الواقعيّة الجديدة إلى كشفها وتجعل من الوعي بأسبابها وجذورها نقطة انطلاق”. إنّ استكشاف المجتمع من خلال أفراده قد فرض استخدام لغة سينمائيّة مختلفة. متأثّرين بالواقعيّة الجديدة وبسينما الواقع، تحدّى أصحاب التّجديد في السينما العربيّة الأعراف السينمائيّة التي كانت قد سادت المشهد حتى اللحظة فشوّشوا الحدود الفاصلة بين الوثائقي والرّوائيّ وضيّقوها واختبروا مختلف أشكال السّرد.

في أحدث مجموعة من الأفلام العربيّة البديلة، يبرز موضوع الوحدة كواحد من أكثر المواضيع حضورًا وهو موضوع يكاد اليوم ينفصل تمامًا عن البعد الاجتماعيّ العامّ. إنّ هيمنة الأيديولوجيا الليبراليّة ومن بعدها تلك الليبراليّة الجديدة على البلدان العربيّة، يُضاف إليها التّنافس والعزلة و والمنافسة والعزلة فضلًا عن الحكم الاستبداديّ (العسكريّ)، قد دمّرت النّسيج العربيّ أوسع تدمير. هنا يعترف الجيل الجديد من المخرجين بوحدته ويكشف عن الألم. فيلم أوضة الفيران (2013، 85 دقيقة) مثال نادر عن الأعمال الجماعيّة إذ يجمع بين ستّة مخرجين من مدينة الاسكندريّة نسجوا ستّ قصص روائيّة تتناول موضوع الوحدة المنتشرة بين مختلف الأجيال في مدينتهم. كانت المجموعة قد شرعت بتكوين هذا المِشْكال (kaleidoscope) الهادئ قبل ثورة العام 2011 كخطوة نحو ابتداع شكل من أشكال التآزر.

في فيلم “حارّ.. جافّ.. صيفًا” (2015، 30 دقيقة) للمخرج شريف البنداري، يتحرّر شخصان غريبان من وحدتهما الثقيلة عندما يستقلّان بالصّدفة سيّارة أجرة، لينتهي بهما المطاف كزوجين أمام عدسة كاميرا في حفل زفاف، قبل أن يذهبا من جديد كلٌّ في طريقه. في فيلم المخرج محمّد صبّاح عَ شفير (2017، 89 دقيقة)، يحاول المصوّر الفوتوغرافيّ عُمَر أن يتعامل مع العبء العاطفيّ للخسارة المتواصلة التي يواجهها في بيروت، المدينة التي تعاني من هجرة دائمة وعنف سياسيّ. يصطفّ النّاس أمام استوديو عمر ليشاركوا من خلال جلسات التّصوير قصص الفقد والألم. بينما يستعدّ الزّبائن لجلسات التّصوير، يصوّرهم عُمر سرًّا بكاميرا مراقبة. تأتي الأفلام، في ظلّ انهيار المجتمعات المسحوقة، لتشدّد على ضرورة التّلاقي الإنسانيّ. إذ يتعامل المخرجون مع آلام شخصيّاتهم بالحبّ والتّعاطف، يعيدون خلق ذاك الدّفء الذي يدفع نحو عودة التّلاقي.


آرمبراست، والتر (1996). الثقافة الجماهيرية والحداثة في مصر، مطبعة جامعة كامبريدج، كامبريدج/ملبورن/نيويورك، الصفحة 114.


ميشال خليفة (2006)، من الواقع إلى الخيال – من الفقر إلى التّعبير. في: حميد دباشي: أحلام وطن. عن السينما الفلسطينيّة. دار فيرسو Verso، لندن/نيويورك، ص. 51.

₃ كما ورد عن لسان نوري بوزيد في كتاب بحمد جمال (2013): أمّة عارية: عن “ريح السّد” لنوري بوزيد (1986)، في: بسشوف، ليزيل وديفيد ميرفي: الكلاسيكيّات المفقودة في أفريقيا. تاريخ جديد للسينما الأفريقية. روتليدج، لندن، الصفحة 75.

المجموعات